"صحفيات غزة تقفن على عتبات "الموت".. روايات مفزعة من قلب "الإبادة
خاص - حياة واشنطن
في حربٍ طال أمدها وصارت فيها "الصحافة" ذريعةً إسرائيليةً للاستهداف المباشر، فمنذ اندلاع العدوان على قطاع غزة، في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، وجدت الصحفيات الفلسطينيات أنفسهن أمام أسوأ نقلةٍ على الإطلاق في تاريخ المهنة، حين امتزجت سياقات العمل الصحفي بتفاصيل الحياة اليومية.
أوضاع مزرية تعيشها الصحفيات الفلسطينيات في غزة، إحدى أخطر مناطق العمل الصحفي في العالم أجمع إذ ارتقى منذ بدء الحرب على القطاع المحاصر، أكثر من 240 صحفيًا، بينهم 43 صحفية، قضت بعضهنَّ جراء قصفٍ مباشرٍ، وأخريات فارقن الحياة تحت وطأة الخوف والرعب المستمر.
"حياة واشنطن" تحدثت مع صحفيات فلسطينيات تتواجدن في قلب حرب الإبادة الجماعية، وحين ترى سردهن لتفاصيل يومهن وما تتعرضن إليه منذ أن بدأ العدوان، تجد أن تشبيه "مراسلون بلا حدود" بأن غزة باتت "مقبرة الصحفيين" هو الأكثر بلاغة على الإطلاق.
بصوتٍ باكٍ حزين ومرتجف، وبعبارات موجعة لكنها كانت كفيلة لوصف أهوال ما رأت منذ "أول صاروخ" أطلقه المحتل بقلب غزة، الصحفية "نور السويركي" صاحبة الـ(45 عامًا)، بدأت حديثها عن الانعكاسات النفسية والاجتماعية على الصحفيات العاملات في القطاع، بعبارة: "ما أعيشه هو فوق طاقتي على التحمل.. أنا بحاجة فقط لألتقط أنفاسي"،
"عما أحدثكم؟، أزمة الحمامات؟، انعدام أبسط مقومات الحياة اليومية؟، أم عن الدورة الشهرية؟، حتى كوب الشاي - إن وجد - فهو رفاهية، في ظل معيشتنا المُرة تحت النار منذ عامين وأكثر".
"نور" وهي أم لطفلين، لم تتمكن من النوم لأيام، لكنها عادت بذاكرتها لتروي البداية.. بداية الحرب في ذلك السبت، لتقول: "لم يكن هناك مكان حتى لنمدد أجسادنا فيه بعد يوم عمل متعب".
أم جمال (14 عامًا)، وعلياء (12 عامًا)، وجدت نفسها فجأة جزء من الحدث، "نور" كما غيرها من الصحفيات الفلسطينيات، فقدت الأحبة ودمر منزلها لكنها واجهت مسؤوليات العمل الضخمة، كامرأة، وأم، وزوجة، تضاعفت تلك المسؤوليات مع النزوح المتكرر والتهديد اليومي بالقتل.
فكرت نور قليلًا لتسرد أكثر العقبات والمخاوف التي تواجهها، لتقول: "كنت أخاف من تغطية المساء.. كنت أخاف حقيقة من الاستهداف المباغت، أفكر في طفليَّ، وفي زوجي، ماذا لو استشهدت؟ ماذا لو أصبت؟".
وأضافت: "لكم أن تتخيلوا أنني منذ أول أيام الحرب في أكتوبر، وحتى فبراير، لم أخلع حجابي إلا في لحظة الاستحمام، نسينا أنفسنا، فرسالتنا أهم من باقي التفاصيل. شعري تساقط، وجهي احترق من الوقوف تحت الشمس، وقلبي أحرقه القهر على دموع الثكالى، وروحي اختنقت بنيران الحطب".
معاناة "نور" تطابقت إلى حدٍ كبير مع المآسي التي شهدتها الصحفية والمصورة الشابة "مريم أبو دقة"، خلال عملها ونقل تغطيتها لجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين العزل.
"مريم" التي استشهدت في قصف إسرائيلي استهدفت خيمة للصحفيين بجوار مستشفى الشفاء بقطاع غزة، كنت قد تحدثت لـ"حياة واشنطن" قبل أيام قليلة من استشهادها وقالت:
"مريم" فكرت مليًا، عن أي من المآسي ستبدأ حديثها؟، جحيم النزوح؟، أم الاستهدافات المتكررة لخيام الصحفيين والصحفيات؟، أم عن معاناة المرأة في هذه المهنة؟، أم أنها ستستهل بالحديث عن كيف أصبح من يرتدي الدرع والخوذة هدفًا يستبيحه الاحتلال؟.
صاحبة الـ(32 عامًا) شهدت الكثير والكثير من التصعيدات الإسرائيلية على قطاع غزة، وقامت بتغطيات صحفية عدة طوال عمرها المهني، لكنها أقرت بأن هذه الحرب هي الأعنف والأشرس على الإطلاق.
فمن مكان يتهدده الموت إلى مكان لا يبتعد عن الموت كثيرًا، حكت مريم أهوالاً عن النزوح، إذ أنها نزحت مع عائلتها نحو 12 مرة في غضون الثلاثة أشهر الأخيرة، تحت تهديدات آلة الحرب الإسرائيلية.
ووسط حرب هي الأشرس التي مرت على قطاع غزة، وفقًا للصحيفة الشابة التي قالت إن النزوح والجوع أصبحا مرافقين لنا في الحياة، تكرار عمليات النزوح هي أصعب مرحلة تعيشها الصحفيات والأهالي، شعور مليء بالخوف والقلق، إلى أين سنذهب؟، ما الذي ينتظرنا هناك؟، من سنفقد من العائلة الليلة؟.
"اليوم نحكي الخبر، وغدًا نكون نحن الخبر، فقدنا كثيرًا من الصحفيين والصحفيات أمام أعيننا في العمل الميداني أثناء تغطية الأحداث المتصاعدة، الاحتلال يستهدف خيامنا في كل مكان".
مريم التي توقفت فجأة عن الحديث ثم تنهدت وكأنها تذكرت شيئًا عن معاناتها كصحفية في القطاع المنكوب، ومن ثم واصلت مجددًا لتقول: "أتعرف!!.. الصحافة مهنة المتاعب لكنها هنا في غزة هي طريقك إلى الموت".
وأضافت: "المعروف أن الدرع والخوذة هما حماية للصحفي، لكن في قطاع غزة أصبحا هدفًا يصوب عليه جنود الاحتلال.. في بعض الأحيان كنا لا نرتديهما كونهما باتا يشكلان خطرًا على حياتنا".
وتطرقت مريم إلى تأثيرات الحرب عليها نفسيًا، قائلة: "أشتاق لحضن ابني.. ابني الوحيد الذي خرج من القطاع مصابًا، لم أره منذ أشهر طويلة.. الحرب أفقدتني أمي التي ارتقت شهيدة بعد قصف الاحتلال على مكان نزوح العائلة في رفح".
"لا مكان آمن في غزة"، عبارة كررتها مريم كثيرًا لوصفها حال القطاع، قائلة: "خوف وقلق وجوع.. أصوت القصف وأزيز الرصاص في أذاننا أينما ذهبنا، لا نوم ولا راحة، ملامحنا تغيرت، أجسادنا باتت هزيلة، هذه مشاعرنا، وهذا حال كل مواطن في القطاع، لكننا أجبرنا على التأقلم".
ويبدو أن القدر كان له رأي آخر.. رأي يبرهن كذلك على حجم الآلام والأوجاع، ويدلل أيضًا على معاناة الصحفيات الفلسطينيات اللاتي تعشن في هذا القطاع المنكوب، فبعد أن نسقت "حياة واشنطن" ذات يومٍ مع الصحفية "شروق شاهين"، التي ردت من جانبها بترحاب شديد بالمشاركة في الإجابة عن أحد أسئلة هذا التحقيق.
إلا أن يومًا مر ولم تجب "شروق"، ليمر يوم آخر.. ويوم بعد يوم، حتى علمنا بارتقاء خالها، فما عسانا إلا أن أرسلنا للزميلة الصحفية رسالة عزاء ومواساة وندعوا للفقيد أن يتغمده الله بواسع رحمته ويقبله مع الشهداء والصديقين.

.avif)